تشكل هذه العناصر الأربعة قوة ناعمة تمكنت السعودية من خلالها من تكريس دورها كلاعب أساسي في السياسة الخارجية، وعلاقاتها مع الدول وخاصة الدول المحيطة. على المستوى المحلي غالبًا ما تكمن القوة الناعمة للدول في قدرتها على التأثير على توجهات نخبها وشعوبها، وجعلها راضية عن سياساتها حتى لو كان الحكم لا يتشابه مع الأنظمة الديموقراطية.
إلى ذلك، تعتبر القوة الناعمة جزءًاً من رؤية السعودية 2030، وتتضمن العديد من المبادرات والبرامج الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدف إلى تعزيز الصورة الإيجابية للمملكة في العالم، وكان لا بدّ من البدء بالعمل داخليًا على المستوى المحلي، كي تتمكن من تغيير نمط التفكير الذي أدى إلى سمعة سيئة للمملكة على مستوى مفاهيم الحريات المرتبطة بالعلمنة خاصةً أن الأيديولوجية الدينية الوهابية ارتبطت بصناعة الإرهاب.
*عقيدة الصدمة في ممارسة القوة الناعمة محليًا
وعلى الرغم من أن التحوّل الاجتماعي لا يحصل إلا بالتراكم التاريخي، إلا أن الملاحظ أن هذا التحوّل حصل على مبدأ عقيدة الصدمة، حيث تمّ معاقبة وسجن كل من اعترض على الرؤية الجديدة لعلمنة الدين الإسلامي، وتحويله لأيديولوجيا السعوديين، من أقصى التطرف إلى أقصى التفلّت من المعايير الدينية، تحت عنوان “الاعتدال الإسلامي”. وبدء العمل بإغراق البلاد بكافة الأنشطة الثقافية والفنية، مع التركيز على كل ما يتعلّق بالترفيه، وعلى مستوى لافت جدًا. حتى أن المملكة استضافت كافة نجوم الغناء والطرب في العالم العربي في ليلة واحدة، بالإضافة إلى استضافة مغنين واستعراضيين أجانب، معروفين بميولهم الشاذة. وهو الأمر الذي كان يمكن أن يحصل المواطن السعودي على الإعدام بسببه. أما على مستوى الرياضة، فقد تمّ توقيع عقد مع أغلى لاعب كرة قدم في العالم كريستيانو رونالدو لصالح نادي النصر السعودي، ويجري الحديث عن توقيع عقد آخر مع بطل العالم في كرة القدم ليونيل ميسي، في خطو صدمت ليس فقط المواطنين السعوديين، بل سجّلت كحدث لافت على مستوى عالم كرة القدم.
وهكذا تمّ استخدام تقنية الإغراق بدل التراكم التاريخي الثقافي كقوة ناعمة محلية، وهي قوة ذكية وجهها الناعم إغراق الناس في الترفيه، ووجهها الصلب الضرب بيد من حديد لكل من يعارض.
*القوة الناعمة للهيمنة الدينية على الثقافة
بنفوذ استثنائي بحكم مكانتها الدينية، ومن خلال قدرتها الاقتصادية، كانت المملكة تنفق مبالغ طائلة لشراء المؤسسات الدينية والمثقفين الدينيين، وتمويل رجال الدين والمنابر والتلفزيونات والصحف. لتعزيز نفوذ عابر للحدود، حصلت عليه من الأماكن المقدسة كجامعة للمسلمين من كل أنحاء العالم.
أحرزت المملكة تقدمًا هائلًا في هيمنتها الدينية على الثقافة إثر المشروع الأميركي في تقسيم المنطقة. إذ قادت نشر الفكر الوهابي في كافة الدول، من خلال بناء المساجد وتمويل المؤسسات وتصدير الوهابية على كافة المستويات اللوجستية والأمنية والعسكرية والتمويلية والثقافية وحتى الفتاوى الشرعية.
كما استطاع السعوديون الحدّ من نفوذ الأزهر من خلال تأمين المنح المجانية للطلاب المسلمين في شرق آسيا وتقديم الرعاية لهم في المؤسسات الدينية في المملكة. خاصة في الفترة التي وضع فيها السيسي يده على الأزهر، وأصبح ممولًا ذاتيًا.
تمكّنت المملكة أيضًا من تحصيل نفوذ هائل في الأعوام 2003 لدى الاحتلال الأميركي للعراق، وعام 2011 لدى الحرب السورية وعام 2015 لدى حرب العراق مع داعش، إذ تولّت تمويل وتحريض وإدارة وتسليح بالاضافة الى الاسناد الإعلامي للحركات التكفيرية. الا أن كل هذه الجهود ذهبت سدى مع انتصار محور المقاومة وإنهاء الحرب في سوريا والعراق.
*التخلي عن الدين كمنبع للقوة الناعمة الثقافية
ثم جاءت رؤية 2030 ليتخلى بن سلمان عن المؤسسة الدينية ويضع الكثير من رموزها في السجون، وإعلان مواسم المهرجانات، وظهور الاحتفالات الغريبة عن المجتمع الاسلامي على كافة الوسائط الإعلامية، بالإضافة إلى تعديل الفتاوى المتشددة لتتناسب مع واقع الرؤية المنفتحة الجديدة، وتعديل المناهج الدراسية التي سيطر عليها الفكر الوهابي لعقود، وهي على الشكل التالي:
– إطلاق مبادرات وبرامج لتعزيز الرياضة والترفيه والفنون في المملكة، مثل مبادرة “موسم الرياض” ومهرجان “طابا” الذي يهدف إلى تعزيز السياحة الداخلية والترويج للفنون والثقافة.
– الاستثمار في البنية التحتية الرياضية والترفيهية في المملكة، مثل إنشاء مدينة الملك عبد الله الرياضية ومدينة الملك عبد الله للترفيه.
– دعم الرياضيين والفنانين وامضاء العقود مع نجوم كرة القدم.
– تشجيع الاستثمار في صناعة الأفلام والإنتاج الفني في المملكة، وتوفير البنية التحتية اللازمة لذلك.
– تعزيز التعاون الدولي في مجالات الرياضة والترفيه والفنون، وتنظيم العديد من الفعاليات الدولية في هذه المجالات في المملكة حيث كانت محرمة سابقًا.
*نتائج عكسية
هذه الرؤية التي جاءت بالتزامن مع البدء بالحديث عن التطبيع مع الكيان المؤقت، لا بدّ أنها ستضعف من القوة الناعمة للمكانة الدينية لدى السعودية، ذلك أن ثمة غالبية عربية ومسلمة وأخرى متدينة، ترفض الممارسات التي تقوم بها هيئة الترفيه، كما ان هناك قواعد شعبية ترفض التعامل مع الاحتلال الاسرائيلي. كل ذلك على الرغم من الرمزية التي تشكلها مكة المكرمة والمدينة المنورة بالنسبة للمسلمين. وبالتالي ستفقد السعودية جزءًا اساسيًا من أركان مركزيتها بدل أن تعززها، داخليًا وخارجيًا.